جرحى .. وأموال .. وسياسة ؟ د. عامر التواتي
لا يزال ملف جرحى الحرب في ليبيا احد أكثر الملفات غموض وفوضى وفساد في معالجته من الناحية الإجرائية وألاكثر
سوء من كل ذلك هو طريقة معالجته الإعلامية حيث يستمر العبث بهذا الموضوع الحساس وتتحول
معاناة الناس الحقيقية والمحتملة إلى ورقة للمزايدات السياسية والابتزاز المالي من
إطراف متعددة معنية بهذا الملف بشكل ظاهر أحيانا ومستتر في معظم الأحيان .
الحكومة المؤقتة الحالية وسلفتها حكومة المكتب
التنفيذي وتحت ضغط مستمر أعلامي وبقوة السلاح وببريق المال الذي يحبونه حبا جما وهو
مال كثير على كل حال لم تتعامل مع الأمر بموضوعية مجردة وحيادية وفقا لأسس طبية يمكن
الاستناد أليها وقياسها معياريا بل بعاطفة خرقاء وكثير من الرياء والخوف والطمع في محاولة لإرضاء الناس وهي كما نعرف غاية لا تدرك
, ابتعاث الناس للعلاج تحت يافطة الجرحى لمن يستحق ولمن لا يستحق والاستحقاق هنا لمن
تحتاج حالته فعلا للعلاج بالخارج وليس للتمييز بين الليبيين, عشرات ألاف الحالات الموجودة
بالخارج تحت مسمى علاج الجرحى هي في واقع الأمر ليس لها علاقة بالموضوع على الإطلاق
, كما أن هناك حالات جرحى حقيقية وعلاجها متوفر محليا, وبإمكاننا تطوير بعض المؤسسات
الطبية بشكل سريع وتأهيلها لعلاج مثل هذه الحالات, ويمثل العلاج النفسي والاجتماعي
داخل محيط الأسرة جزء من التأهيل الذي لا يمكن الحصول عليه بالخارج مهما صرفت من أموال .
تتباهي حكومتنا الجديدة بأنها صرفت آو إنها
على وشك ذلك, ما يقارب 2 مليار دينار للعلاج بالخارج أي 2000 مليون دينار خلال بضعة
أشهر, ومع ذلك فالمرضى/الجرحى غير راضون والتذمر
يزداد, والسفارات تستباح, والطرق تغلق, والبارات والمراقص على ضفاف المتوسط تكتظ بالجرحى
ومرافقيهم ومرافقي مرافقيهم (وولد عم صاحب
البوطي), ووزير المالية يصرح بين الحين والأخر
عن أهدار عظيم للمال العام لايسمعه احد وربما لايريد أن يسمعه احد والمزايدات السياسية
تجد مرتعا لها في هذا الأمر الحساس ومحاولة توظيفه لتحقيق غايات ومكاسب سياسية ,وإعلام
يبحث عن الإثارة وتضخيم الحدث, ويظل أصحاب الحاجة هم الذين يعانون .
في لحظة ما ؟ وبطريقة ما ؟ ولأمر ما ؟ تم إلغاء وزارة الجرحى وتحميل تركتها
الثقيلة والفاسدة لوزارة الصحة التي هي أصلا غير قادرة على الوقوف على قدميها ولكن
على رأي أمثالنا الشعبية ( حط عليها ماهي نايضة ماهي نايضة ).
ما ألذي يحدث بالضبط ؟؟؟ لا اعتقد آن هناك
من يملك إجابة شافية لهذا السؤال؟ يظل الآمر
معقدا وتتداخل فيه معطيات وحسابات متعددة وحتى متناقضة في بعض الأحيان وهو ما يجعل الموضوع مرتعا للمساومات
والصفقات والعبث . لم تتوقف الإشكاليات العصية على الفهم على موضوع الجرحى, بل ولمزيدا
من خلط الأوراق وهدر الأموال تم تشكيل لجان
للعلاج بالخارج وهو ما زاد الطين بله , أصبحت
مستشفياتنا تعج بالبشر الذين يبحثون عن العلاج بالخارج من الأورام وحتى الختان مرورا
بإزالة الوشم وتكبير وتصغير الأرداف حسب الموضة, أصبح الأطباء يتهربون من تواجدهم بالمستشفيات
لان السياسات الصحية للحكومة الجديدة والتي
لا تعرف شيئا عن مشاكل الصحة في ليبيا بدلا من صرف هذه الأموال على التجهيزات والصيانة
والتدريب والتطوير والتعاقد مع المختصين في التخصصات التي لدينا نقص بها بدلا من كل ذلك حولت الأطباء الذين رضوا بالعمل
بهذه الطريقة لمجرد كتبه للتقارير الطبية والكثير منها غير صحيح .
مع معرفتنا بوضع الخدمات الطبية بليبيا ومعاناتها
وبالرغم من أن الخدمات الطبية ليست اسواء من أي مجال أخر كالتعليم مثلا , فالخدمات
الطبية ليست اسواء من شركات الطيران التي تلغي مواعيدها بدون إنذار وإذا تسألت يقولون
لك دبر راسك , وليست اسواء من خدمات شركة الكهرباء لذا لايخلو بيت من الشمع ضرورة الطؤاري
.... الخ من الأنشطة والمؤسسات الخدمية .ألا
أن وضع الصحة يبدو أكثر سوء للعيان وهذا أمر مفهوم نظرا لطبيعة الخدمات الصحية وحيويتها
واستعجاليتها , آذ أنها خدمات طارئة في كثير من الأحيان ولا يمكن إيجاد بديل لها واعتمادها
على الاستيراد بشكل كامل من أتفه الأشياء وحتى أكثرها تعقيدا وهو موضوع يطول الحديث
فيه ولا يتسع المجال لتناوله ألان .
مع كل المشاكل التي يعاني منها قطاع الصحة
وتحميله عبء الاهتمام بصحة الناس وهو من اكبر الأخطاء التي حصلت بهذه البلاد لأنه لا
يمكن وبأي حال من الأحوال أن تقوم وزارة الصحة بمفردها بتوفير الخدمات الصحية لكل الناس
مهما خصصت لها من أموال في ظل غياب قطاع خاص مؤطر قانونيا وملتزم أخلاقيا وغياب مؤسسات
قادرة على العناية بمنتسبيها كشركات النفط والمصارف والجيش والشرطة وشركات للتامين
الصحي وتشريعات حديثة تتماشى مع تغير مفاهيم الصحة والمرض وكيفية التعامل معهما, كما
انه ليس من العدل آو الإنصاف ولا من الموضوعية المجردة تحميل قطاع الصحة والعاملين
فيه مسؤولية سوء الخدمات الطبية لأنها وببساطة نتاج سياسات عامة أدت إلى إخفاقات كبيرة
في كل المجالات, يطلب الناس في ليبيا من قطاع الصحة أن يكون مثل أوروبا ونسوا آو تناسوا
أن النهضة هي شاملة فأما أن تنهض الأمة/الشعب/البلد بأجمعها وأما أن تسقط جميعا فبالتالي
لا يمكن إيجاد واحة آو فردوس اسمه الصحة في
بيئة وإدارة ومجتمع مثل حالنا اليوم .
بالرغم من احترامنا لشخص السيدة وزيرة الصحة
, إلا إننا نعتبر أن اختيارها لإدارة هذه الوزارة في الوقت الحالي وهي التي لا تدري
شيئا عن أوضاع الصحة في ليبيا منذ عشرين سنة ونيف هو آمر خاطئ وتحميلها أوزار الفساد
والتعفن في ملف الجرحى هو كالضرب في الميت,’مجرد نقل ملف الجرحى لوزارة الصحة وبهذه
الطريقة المسرحية واستغلال عدم معرفة الوزيرة بألاعيب الساسة واللصوص الذين أهدروا
مئات ملايين الدينارات وعملات أخرى ويحاولون
اليوم التخلص من كل هذا وتحميل الأخطاء للسيدة القادمة من دبلن .
لا يخفي على احد مدى العجز الواضح للسياسات
الصحية سواء في المكتب التنفيذي آو في الحكومة
الانتقالية واحد أهم الأسباب بالإضافة إلى الصراع على النفوذ والمال والسرقة هو الاستعانة
بأشخاص ليست لهم أي دراية بالوضع الصحي في ليبيا , كما أن عدم وجود خبرة سياسية وإدارية
لديهم جعلهم الحلقة الأضعف والتي تتلقى الاتهامات عن أخطاء لم يقوموا بها.
نعرف بأنه لم يبقى الكثير من الوقت للحكومة الانتقالية بما فيها وزارة الصحة ومؤسساتها
لإصلاح النظام الصحي بليبيا , ولكن ما تبقى من وقت قد يكفى لإعادة النظر في ملف الجرحى
والتحقيق في فساده واختلاساته وكشفها للرأي العام , كما أن ما تبقى من وقت للسيدة الوزيرة
قد يكفي لإيقاف لجان العلاج بالخارج الموجودة حاليا وإعادة النظر فيها على أسس علمية
ولاشي غير ذلك , ماتبقى من وقت قد يكفي للسيدة الوزيرة لكي تعيد تعريف النظام الصحي
من حيث المفهوم والممارسة وترسم ملامح للنظام الصحي وفقا لأحدث الأساليب العلمية المتبعة
في عالم اليوم , ماتبقى من وقت قد يكفى لان تنظر حولها لترى حجم العبث والفوضى واستغلالها
من فبل إطراف ليست بعيدة عنها , ماتبقى من وقت قد يكفى الوزيرة أن تنظف وزارتها قبل
فوات الأوان وتفضح الفساد في ملف الجرحى الذي ستتحمل أوزاره وتلاحقها لعنة الجرحى حتى بعد خروجها من الوزارة
ورجوعها لدبلن أن لم تقم بذلك .
سيظل الانتقاد والكثير منه هداما موجها لقطاع
الصحة, وسيظل الأطباء يتحملون أوزار أخطاء لم يقوموا بها وغير مسئولين عنها مثل الخروقات
الأمنية وإهدار المال العام من خلال لجان العلاج ونقص الدواء والتجهيزات الضرورية وتشريعات
حديثة تحفظ حقوق المريض والطبيب وتنظم الممارسة المهنية, وسيظل الليبيين يوظفون كل
معارفهم وأصدقائهم من اجل قبول أبنائهم في كليات الطب الليبية وهم مقتنعون بان الأطباء
الليبيين قادرين على تعليم أبنائهم الطب, ومع
ذلك سيذهبون للعلاج في تونس لأنهم مقتنعون أن الأطباء الليبيين غير قادرين على معالجتهم
.
عجيبا أمركم؟؟ .
د. عامر التواتي