الأحد، 25 مارس 2012

الخدمات الطبية .. إشكاليات الواقع ورهانات المستقبل


الخدمات الطبية .. إشكاليات الواقع ورهانات المستقبل

لاشك بان الخدمات الطبية تعتبر في هذا العصر جزء لا يتجزءا من الاقتصاد الوطني والتنمية المستدامة , حيث انه لا يمكن خلق تنمية في غياب أو قصور بصحة القائمين على تحقيق هذه التنمية ,إضافة إلى أن الحقائق الجديدة والمتغيرة  في هذا العالم الكبير  والمتمثلة في :
1.     التغير السريع للعالم على كل المستويات وتداعياته على الصحة
2.     زيادة الاستخدام لتقنية المعلومات في كافة أوجه الحياة ومن أهمها تقديم الخدمات الصحية
3.     النمو المضطرد لعدم المساواة في الدخل بين المواطنين  وبالنتيجة عدم المساواة في الخدمات الصحية
4.     تزايد أعداد السكان من الكهول  وعبء التحديات الصحية المترتبة على ذلك
5.     التطور السريع في المفاهيم والممارسة للطب الحديث وضرورة مواكبته
   كما أن مواكبة هذه التطورات السريعة والكبيرة في مجال الصحة كل هذه العوامل الجديدة نسبيا تحتاج إلى أعادة النظر في واقع الخدمات الصحية الموجود حاليا من كافة النواحي العلمية , والتقنية,   والإدارية , والتشريعية .
  لازال  نظام الخدمات الطبية (آلية توفير الخدمة التي تلبي الاحتياجات الصحية للأفراد) أو بمعنى آخر "   مجموع المنظمات والمؤسسات التنفيذية   والموارد المرصودة لتحقيق وتحسين   الخدمات الصحيــة "   يعاني من صعوبات متراكمة ومتفاقمة, وبالرغم من الميزانية الكبيرة خلال العام 2007 والتي تضاعفت مرات عديدة مقارنة بالسنوات السابقة ألا انه من الصعوبة بمكان أن نلاحظ أي تحسن في آلية عمل النظام وعلى كل المستويات وبالأخص في مجال الحوادث والإسعاف ومجال الأمراض المزمنة والسرطانية. ماعدا بعض التجهيزات غير المدروسة في كثير من الأحيان هنا وهناك .
تظل آليات عمل الجهات المسئولة عن الخدمات الصحية بالبلد المتمثلة في ضخ المال وتبني سياسات أصلاحية ؟؟ لاتعدو أن تكون ردود فعل أكثر منها برامج للقطاع الصحي المعطوب تظل قاصرة نتيجة لعدم معالجة المشكل الأساسي وهو أن النظام الصحي الحالي برمته من حيث تركيبته التنظيمية والتشريعية والية صناعة القرار به لم تعد تواكب العصر لا من حيث المفهوم ولا من حيث الممارسة بل أن فشل السياسات الصحية الإصلاحية بالطريقة المطروحة حاليا سوف تعاني منه الاجبال القادمة أيضا وبالتالي فان المسالة تحتاج إلى روية ودراسات علمية والتوغل في التفاصيل .
إن حديثنا هنا يحاول التطرق لمستقبل الخدمات الطبية بهذا البلد من خلال قراءة لواقع النظام الصحي والسياسات المطروحة لإصلاحه .
من المعروف أن معظم الناس تعتمد أو تقدر بشكل مبالغ فيه السياسات/ الإجراءات قصيرة المدى والتي هي في الواقع   حلول مؤقتة ومتوترة أكثر منها تخطيط مستقبلي لان الناس دائما تبحث عن المكاسب السريعة, وفي نفس الوقت لاتعطي التخطيط بعيد المدى أهمية كبيرة لان الكثير من المسئولين يعتمدوا في نظرتهم للمستقبل على التوقعات وليس على التخطيط العلمي والمدروس بشكل ناضج .
لذا فان  التفكير بأننا نستطيع أن ندير نظام الخدمات الطبية بنفس الطريقة التي كان يدار بها خلال العشر سنوات الماضية على الأقل فهو امرأ يدعو لخيبة آمل , لان مفهوم الصحة لم يعد يعني الخلو من المرض فقط ؟.
    كما أن  المستقبل بشكل عام لا يصنع من خلال التوقعات والأحلام ,إنما من خلال العمل والاستثمار فيه وهو ما لا نراه حاليا . لأنه ما لم يتم التطرق للمكونات الأساسية لتوفير الخدمة الطبية واكتشاف مشاكل الخلل بالمنظومة الصحية ومعالجته بالطرق الحديثة فلن يكون هناك تحسن لمستوى الخدمات الطبية بل العكس هو الصحيح .
ولمن يعنيهم آمر الصحة وخدماتها   نود آن   نوضح أن النظام الصحي يرتكز على ثلاث أعمدة أساسية لأداء وظيفته تتمثل في :

أولا : التمويل :  والمقصود به الأموال اللازمة لتقديم الخدمة الصحية اللائقة للمستفيدين وهى تمثل عادة بجزء من الناتج القومي لأي بلد يعتمد على الخزانة العامة أو عن طريق مؤسسات واليات مختلفة كالتامين الطبي وما إلى ذلك , وبغض النظر عن طبيعة التمويل والياته ومصادره فانه يظل أهم تحدي يواجه توفير خدمات طبية لائقة وذات جدوى نظرا للكلفة العالية الضرورية وأحيانا غير المتوقعة .

ثانيا : الولوج (الوصول ) للخدمة في الوقت والمكان المناسب من قبل المحتاجين لها. وهي تعني كيفية ادراة منظومة الخدمات الطبية من مستوياتها الدنيا إلى المستويات الأكثر تعقيدا , يمثل هذا الأمر أي كيفية إدارة الخدمات الطبية وتوفيرها للناس في الوقت والمكان المناسب   أكثر الركائز المعطوبة في منظومتنا الصحية بهذا البلد ولا يحتاج الأمر لتوضيح كبير لأنه واضحا  فيما نراه ونعانيه من تدهور للقطاع الصحي كنتيجة طبيعية لطريقة إدارتنا للخدمات الطبية .
         
ثالثا : توفير خدمات طبية ذات نوعية عالية الجودة   مبنية على المفاهيم والممارسة الحديثة للطب, أي الطب المبني على البراهين وهذا لا يتحقق إلا عن طريق استخدام التقنية الحديثة في مجال التشخيص والعلاج بالإضافة إلى التعليم الطبي المستمر والتدريب عالي النوعية للعناصر العاملة في مجال الرعاية الصحية   وليس المفهوم القديم والذي لازال معمول به في كثير من مؤسساتنا الطبية. يمثل التطوير التقني والتدريب المناسب لمواكبة المستجدات لكل العاملين بالقطاع مسالة حيوية للارتقاء بنوعية الخدمات المقدمة للمحتاجين لها , فإذا عرفنا مستوى التدريب الذي يتلقاه العاملين بالقطاع من أطباء وتمريض وفنيين وإداريين , وكذلك مستوى تجهيزاتنا وإمدادنا الطبي التي يتبجح بها بعض من المسئولين المنافقين 
فيجب ألا نفا جاء بنوعية الخدمة المتوفرة .
  يمكننا الادعاء هنا بان إشكاليات واقع الخدمات الطبية تتمثل في نقص التمويل الكافي لتقديم خدمات مناسبة والأدهى من ذلك أن ماهو مخصص من مال للقطاع بالرغم من انه غير كافي فان جزء كبير منه يضيع في أزقة الفساد والرشوة والسرقة  وعلى حساب المرضى الذين لأحول ولاقوه لهم , بالإضافة إلى سوء أدارة القطاع وفقا للمنظومة الإدارية والياتها التشريعية والفنية   الخ الخ . ونتيجة منطقية لذلك فان الخدمات المتوفرة حاليا لا ترتقي لمستوى خدمات عالية الجودة نتيجة لغياب الشروط   الأساسية وهي التمويل الكافي والإدارة الجيدة   وبمصطلحات أكثر وضوحا فان سبب تردي الخدمات الطبية يظل الفساد المالي والإداري والأخلاقي المتفشي بهذا القطاع منذ سنوات طويلة .

 يشكل القطاع الخاص مكتمل النمو, المؤطر قانونيا والملتزم أخلاقيا رافدا أساسيا للقطاع العام في مجال تقديم الخدمات الطبية , إلا أن الرهان عليه بالكامل   وإلغاء القطاع العام الذي تموله وتشرف عليه الدولة يظل هذا الرهان خاسرا. لأسباب واضحة في بنية القطاع الطبي الخاص من حيث منطلقاته وغاياته اذ انه يعتمد أي القطاع الطبي الخاص على مرتكزين أساسيين وهما الربح والانتقائية { اختيار نوعية المرضى } وهما نقيضين صارخين لمفهوم ودور القطاع العام/الدولة/المجتمع وهو المساواة في توفير الخدمة الطبية لكل إنسان   لكونه إنسان فقط وبغض النظر عن أي معايير أخرى حتى لا تصبح الصحة حكرا على من يملكون ومن يملكون أكثر .     
 في رأينا   نعتقد أن الرهان الحقيقي هو في المحافظة على مكتسباتنا من البني التحتية الموجودة حاليا الخدمية والتعليمية   وتطويرها وفقا للأنظمة الحديثة للإدارة   وتطوير وتفعيل القانون بما يحقق مصالح إفراد المجتمع ويحد من الفساد المستشري في هذا القطاع وقطاعات أخرى .
يظل الجدل قائما ومستمرا في كل مكان حول فاعلية النظام الصحي , ومع التسليم بأنه لا يوجد نظام مثالي للخدمات الطبية, آلا أن المقارنة الموضوعية للأنظمة الصحية في كثير من البلاد التي تمول خدماتها الطبية من الخزينة العامة يبين بان نظامنا الصحي يأتي في مرتبة متأخرة من حيث مستوى تقديم الخدمة الصحية وبالمقارنة مع الدول ذات التجارب الناجحة نسبيا يظل هناك الكثير لنتعلمه, هذا ذا كانت هنالك أرادة حقيقية لصنع الأفضل ؟؟ .
 
أ/د   عامر التواتي بن ارحومه  
استاذ الجراحة / جامعة سبها

نشر في صحيفة الوطن الليبية الالكترونية 10-7- 2008  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق